انتقلت إلى مسكن جديد وهذه المرحلة التي أمر بها يمكن أن يطلق عليها البرزخ وهو في لسان العرب ما بين كل شيئين ومنه قيل للميت أنه في برزخ ما بين الدنيا والآخرة. فأنا في مرحلة انتقالية من مسكن لمسكن وتنتابني أحاسيس متضاربة وأفكار متشعبة بين الفرح بالانتقال وبين انخلاع القلب لإلف المكان. والارتباط بالمكان من الغرائز الشهيرة وخاصة لدينا نحن المصريين وخاصة من ليسوا من أهل السواحل وبالرغم أنني لست من أهل الزراعات إلا أننا تطبعنا جميعا بطبع ذلك النيل وزراعاته.
حالتي تتراوح بين الفرح والقلق أبيت هذه الليلة إحدى الشقتين فيها نصف المتاع والأخرى فيها النصف الآخر فحيثما بت سأبيت بغير كامل الارتفاقات التي تعودت عليها.
والسؤال الملح هو هل أنت مستعد لترك كافة ما اعتدت عليه من كماليات. الآن أنا في المسكن الجديد لا تليفون ولا انترنت لا سلكي ولاحتى لاسلكي شبكة المحمول مشغولة وخطأ في الاتصال أسمع بعد يوم من الإنهاك نداء في المسجد "الصلاة جامعة" ولي عدة أيام لا أتابع الأخبار اتصلت بأحد الأصدقاء لأسأله.
مشكلة التعود على الكماليات هل نحن فعلا مستعدون لترك بعض ما اعتدنا عليه من كماليات وقد أشار أحدهم في أحد المواقع مرة إلى ضرورة اقتناء الكتب الورقية أو حتى على الكمبيوتر وعدم الاعتماد على وجودها في الانترنت وأشار افتراضيا إلى احتمال سقوط الانترنت بالكامل وهذا قد يحدث لبعض الناس ولو بشكل جزئي كما في حالتي هذه.
الانترنت على المحمول الصفحة الرئيسية أغلبها مخصص لأخبار الفنانين وألبوماتهم وتنزيل النغمات والصور ومافيها من أخبار قليل جدا شكرا لا بد على أن أدخل إلى أحد المواقع المدفوعة ورصيد الهاتف أوشك على الانتهاء.
أريد أن أنام ولكن مرهق جدا نقلت معظم الأشياء الهامة في فترة وجيزة نصفي يوم يعني نصف يوم ونصف يوم حوالي 10 ساعات وهذا أعتقد رقم قياسي.
وهذا يذكرني بفكرة دائما تلح علي هل إذا عاش الإنسان حياة سريعة (بدون قلق أو توتر) وأعني بالحياة السريعة أن تلغي منها الفجوات التي يمكن تجاوزها مثلا أنا تزوجت في فترة أسبوعين وهناك الكير من الأشياء التي أحاول أن أختصر وقتها السؤال : هل هذا الشاب الذي عاش تلك الحياة السريعة هو في حقيقة الأمر قد عاش فترة أطول أو فترة مساوية لمن عاش نفس العمر بحياة رتيبة ؟
كنت فيما مضى أزعم أنه قد عاش ما يوازي الكثير من السنين من جنس حياة الذين يعيشون الحياة البطيئة.
ولكن الآن (وقد بقي أسبوع بالتاريخ الميلادي على بلوغي سن الأربعين التي بلغتها هجريا في شهر ذي القعدة الماضي) نظراتي إلى كثير من الأمور تتشكل وتتغير بحس الأربيعينيات وربما تنضج وربما أنتقد بعض الرؤى التى كنت أراها من قبل.
نظرتي الذاتية عن الموضوع المذكور كانت هكذا, الآن المقياس الذي أنا على يقين منه وقد كنت أعلمه قبل ذلك ولكنه لم يكن مترسخا كما هو الآن أن المقياس الذي يقاس به عمر الإنسان ليس حقيقة مقدار ما أنجزه من أحداث في حياته بل مقدار ما أثرته تلك الأحداث سواء في حياته أو بعد مماته أو حياة غيره من الناس.
- فريق العمل في مشروع الانتقال والمؤلف من زوجتي (أولا) ثم أنا وأخرين تطوعوا لمساعدتنا أحسن الله إليهم وكأي فريق عمل تلح علينا أحاسيس من منا يعمل أكثر من الآخرين وأي فرد ألقيت عليه مسئوليات أكثر وهذا نتيجة طبيعية للانضغاط فكل فرد ليس لديه الفرصة ليشعر بالآخرين كما يشعر بمفاصله وعضلاته المنهكة.
- الكثير من الأشياء التي نقتنيها ولا داعي لها أو نحافظ عليها ويصبح مع الوقت لا داعي لها والجرأة على اتخاذ القرار بالتخلص منها يكون أسهل في المراحل الانتقالية كنت أرى عادة قبيحة لأهل الأسكندرية بالتخلص من الكثير من مثل هذه الأشياء (ومنها ما هو زجاجي) مع بداية العام الميلادي وذلك عن طريق إلقائها في الشوارع ليلة رأس السنة مع ما في هذا من المخاطر وأعتقد أن هذه العادة قد خفت الآن. أقول من الأسهل فعلا أن تقرر بشكل دوري ما تحتاج إليه من عدمه والتخلص من كافة الأشياء التي فيها شبهة أنك لن تحتاجها في المستقبل وخاصة تلك التي لم تحتجها لفترة ممتدة في الماضي.
-
في المسكن الجديد أسمع أصوات القطارات وهذا هو منتصف الليل أسترجع ذكريات الروايات التي قرأتها في شبابي وكان صوت القطار ورحيل القطار وموعد االقطار عنصرا هاما فيها نسيت تفاصيلها ولكنها تركت في نفسي شجنا يثيره صوت القطار صوت الرحيل..
- مراحل انتقالية كثيرة تمر بحياة الإنسان هل أثناء المراحل الانتقالية يجمد الإنسان نشاطاته وحياته لحين الانتهاء من البرزخية هذه مشكلة يقع فيها الكثيرون طوال مراحل حياتهم بعد التخرج بعد الجيش بعد الزواج بعد الإنجاب بعد العودة من السفر بعد الشتاء بعد الصيف بعد بكرة....
- كنت منذ شهر تقريبا ذهبت إلى الواحات ورأيت حياة يرى أصحابها أنها ممتعة وكاملة وكنت أراها ناقصة كان الكمبيتور الوحيد الذي قابلته مشحونا بالكثير من الفيروسات ولم يكن معي أي أدوات لاستنقاذ ذلك الجهاز وكان الدخول على الانترنت ليس سهلا وكان ينقطع كثيرا ونجحت في اختطاف برنامج صغير لعلاج الموضوع واستقرت حالة الجهاز وكان ينظر إلى هذا على أنه تحدي قدرات والحقيقة أنني وجدت نفسي في تحد فعلا مع عدم وجود أي أدوات على بعد 600 كم من القاهرة كانت رحلة لطيفة رأيت فيها الجانب الآخر من حياة ذلك الوادي المتكدس المزدحم التي نعيشها وكنت سعيدا بنقاء الجو والهدوء الذي لا يمكن أن تصل إليه هنا حتى في ليالي الشتاء وهو ماسميته درجة اللاصوت . وكان أحدهم قد سألني سؤالا هل يمكنك أن تأتي لتعيش هنا وقد أثار هذا السؤال نفس الأحاسيس البرزخية لاكمبيوتر لا انترنت سريع ولا تليفوني ولا لا...كنت أستيقظ وقت صلاة الفجر وأخشى أن أصلي في المسجد أسمع صوت الرياح من خلال ثقب النافذة
نفس الشعور البرزخي الانتقال إلى حياة ناقصة ليس فيها ما تعودنا عليه من كماليات.
هناك 6 تعليقات:
ما شاء الله
ككل المدونة طيبة
وينقصها عداد للزورا :)
ثانيا برزخياتك طيبة
وموضوع جميل
تحياتي لك
غريب يا شيخ/عصفور
انا ملاحظتش ان المكان اللي حضرتك فيها مفيهوش كمبيوتر ولا انترنت
امال انت بتكتب لنا ازاي؟
خلاص يا دكتور ده كان وقتها والحمد لله وصلت النت ونقلت الكمبيوتر مش ملاحظ عدد التدوينات زاد
وبعدين أنا 40 سنة آه بس شباب خالص
إسأل الله سبحانه أن يفرج كربك ويبدلك به فرحا ومسرة وانشراحا وماجشتير ودكتوراة
ما شاء الله
سرد للأحداث متقن وسلس
وفقكم الله
بارك الله فيك استاذة سلوى
شكرا لتشريفك لي بالقراءة
إرسال تعليق